بسم الله الرحمان الرحيم
موريتانيا ودورها في نشر الإسلام في غرب إفريقيا
موريتانيا ودورها في نشر الإسلام في غرب إفريقيا
موضوع متعدد الأبعاد مترامي الأطراف يحتاج إلى كتب متخصصة وجهود
متضافرة.
ومن
القضايا المهمة جدا في تاريخ المسلمين قضية انتشار الإسلام في مختلف أصقاع العالم،
ذلك أن الرسالة الإسلامية منذ انطلقت من الجزيرة العربية قد اكتسحت أرجاء واسعة من
الأرض في سرعة مذهلة، فدكت عروشا وقوضت دولا واستوعبت حضارات ودخلت فيها شعوب
متنوعة مختلفة أفواجا.
وإذا
كان خصوم الإسلام والمسلين لا يفتئون يثيرون حول هذه القضية الأباطيل ويبثون حولها
الأراجيف ويتخذونها مادة دسمة لإغراء العداوة والبغضاء بين الشعوب المسلمة فإنه
حري بالمسلمين أن يولوها من عنايتهم قدرا كبيرا ليكتبوا تاريخها كتابة واعية
منتمية قادرة على دحض الشبهات الاستعمارية وتأسيس وعي تاريخي إسلامي سليم، متحرر
من الصور والأفكار الخاطئة التي يراد لنا أن نحملها عن أنفسنا.
وددت
أن أعرض في هذه الندوة طرفا مما قام به أبناء هذا البلد المسلم في ماضيهم القريب
والبعيد من نشر الإسلام في غرب إفريقيا. ولست أفعل ذلك تبجحا ولا استعلاء، فليس في
الأمر أكثر من قيام بالواجب أو بعضه، فعل ذلك قوم يبغون به وجه الله ثم أفضو إلى
ما قدموا، ولم يكونوا فيه منفردين بل إن كل الشعوب المسلمة قد ساهمت في نشر
الإسلام وإن تفاوت حظها من ذلك الإسهام كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: (ثم
أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومن هم مقتصد ومنهم سابق
بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)
وإنما
أريد فحسب أن أجلو في الأذهان جوانب من حقائق تاريخية مشرقة ما تزال تفعل في
الواقع فعلا قويا ويمكن إن أحسن استثمارها أن تكون رصيدا عظيم النفع في الحاضر
والمستقبل.
ولننطلق
من البداية في الإطار المكاني والبشري للقضية، ذلك أن موريتانيا تستمد دورها
المتميز في نشر الإسلام من موقعها الجغرافي إذ هي تقع عند نقطة الملتقى بين شمال
إفريقيا وغربها وهذا الموقع الإستراتيجي قد لفت انتباه المؤرخين منذ القديم فهذا
أبو عبيد البكري يصف سكان هذ ه البلاد بأنهم < المصاقبون لبلاد السودان ... أخر
الإسلام خطة > وسيذكر ابن خلدون بعد أربعة قرون أنهم كانوا بين بلاد السودان
وبلاد البربر حجزا.
بالإضافة لهذا الموقع
الاستراتجي تميز سكان هذه البلاد عبر التاريخ بحيوية ثقافية واقتصادية سكانية كبير
ة جعلتهم يؤدون دور الوسيط الواصل بين هذين الطرفين، حيث استطاعت القبائل
الشنقيطية أن تقيم حياة متميزة في اتصالها الإنساني المتنوع مع المجتمعات
الإفريقية وفي العلاقات الفريدة التي نسجتها معها من خلال الصلات الاقتصادية
والثقافية.
وقد استثمر هؤلاء السكان
موقعهم الإستراتيجي وحيويتهم الثقافية والاقتصادية وعلاقاتهم البشرية المتميزة
وغير ذلك من صنوف الوسائل المتاحة لهم في سبيل أداء دور حضاري ثابت في مضمونه، وإن
تغيرت وسائله وأشكاله بحسب الظرف والملابسات التاريخية، ألا وهو نشر الإسلام دينا
وثقافة ولغة، وسأحاول في الصفحات التالية أن ألخص أبرز معالم هذا الدور رابطا إيها
بظروفها التاريخية والحضارية العامة مبينا انتقالها من طور الدعوة السلمية إلى
الجهاد إلى التأثير العلمي والفكري ومراوحتها بين هذه الأطوار والأشكال كلها حسب
مقتضيات كل مرحلة.
ففي
القرون الهجرية الأربعة الأولى توغل الإسلام في الصحراء وتخوم السودان عن طريق
الدعوة السلمية التي حملها الدعاة والتجار فكان إسلام أهل هذه المنطقة فيها عن
طواعية واقتناعا لا أثر فيه لعنف ولا كراهية وهذه حقيقة ثابتة لها ما بعدها. وإذا
كانت مدينة أوداغوست مدينة مسلمة في القرن الرابع الهجري كما يدل عليه نص البكري
فإن مدينة غانه عاصمة المملكات الكبيرة في غرب إفريقيا إذ ذاك كانت واقعة تحت
تأثير إسلامي قوي جدا، فرغم بقاء الملك على وثنيته كان المسلمون يحتلون أهم
المراكز في هياكل الدولة وإدارتها وكانت إلى جانب مدينة الملك مدينة للمسلمين خاصة
بهم. وهذه صورة مشرقة لانتشار الإسلام عن طريق الدعوة والإقناع، كان فيها
للموريتانيين القدماء دور كبير إذ أوصلوا النموذج الحضاري الإسلامي المتفوقة إذ
ذاك إلى قلب أكبر إمبراطورية وثنية في غرب إفريقيا وكذلك أوصلوا الإسلام إلى مملكة
أخرى مهمة هي مملكة التكرور المجاورة لهم جنوبا والتي أسلم عاهلها "وارجابي
بن رابيس" وحمل رعاياه على الإسلام وجاهد بهم في سبيله منذ أوائل القرن
الخامس الهجري.
فاتسع بذلك نطاق الدعوة
الإسلامية في غرب إفريقيا وشملت أصقاعا ما تزال فيها إلى اليوم، ومع حركة
المرابطين التي انطلقت من هذا الشاطئ الأطلسي في أواسط القرن الخامس الهجري شهد
الإسلام في غرب إفريقيا منعرجه الحاسم. ورغم أن هذه الدولة قد تفككت وحدتها
السياسية بسرعة فإنها قد أنجزت منجزات أساسية بالنسبة لموضوعنا أهمها القضاء على
الوثنية في بلاد غانا نهائيا وربط السودان الغربي بشمالي إفريقيا والأندلس سياسيا
واقتصاديا، وأهم من ذلك وضع الأسس الراسخة للوحدة العقائدية والمذهبية بين شمال
إفريقيا وغربها حول مذهب أهل السنة في العقائد والفروع خاصة مذهب الإمام مالك بن
أنس. ويجب أن نذكر هنا التحالف الذي قام بين المرابطين وبلاد التكرور إذ كان (لبي
بن وارجابي رئيس التكرور يقاتل إلى جانب يحيى بن عمر)، وإلى المرابطين ينتسب
"أنداي دان أنجاي مؤسس دولة الولوف" في حوض نهر السنغال، فهو كما تفيد
الروايات الشفوية ابن أبي بكر بن عمر من زوج له زنجية.
وفي ذلك ما فيه من بليغ
الدلالة على المكانة التي يحتلها المرابطون في قلوب سكان المنطقة. وبعد انحسار ظل
الدولة المرابطية عن التخوم الصحراوية السودانية استمر سكان بلاد شنقيط في أداء
دورهم الديني والحضاري ولكن بوسائل أخرى. وفي هذا السياق نشير بصورة خاصة إلى
الدور الجليل الذي كان لمدينة ولاته في ازدهار الثقافة العربية والإسلامية
وانتشارها في غرب إفريقيا كله، وهي التي كانت منذ القرن السابع الهجري واحة من أهم
حواضر هذه الثقافة في المنطقة، ومن مدرستها تخرج الدعاة والقضاة والأساتذة الأولون
كالقاضي محمد بن احمد بن أيده قاضي بلدة ركشن في بلدة الهوصا، وإليها تعود أصول
الأسر العلمية الكبيرة التي أرست أسس النهضة الثقافية في تينبكتوا حاضرة العلم
والفكر في مملكة سانكاي وأعني آل أقيت وآل أندغ، محمد ولد الحاج الولاتي.
وقد
بين لنا السعدي في تاريخ السودان كيف كانت ولاته أصل الحضارة والثقافية في بلاد
السنغاي فقال " كان التسوق قبل في بلدة بيرو (ولاته ) وإليه يرد الرفاق من
الآفاق وسكن فيه الأخيار من العلماء والصالحين من بلد ...... ثم أنتقل الجميع إلى
تنكبتو قليلا قليلا فكانت عمارة تينبكتو خراب بيرو ولم تأتها العمارة إلا من
المغرب أي بلاد شنقيط لا في الدينات ولا في المعاملات ".
وبالإضافة إلى دور ولاته
وهو دور جدير ببحث مستقل كان الدعاة والمرشدون الشناقطة يتغلغلون في أعماق إفريقيا
ينشرون الإسلام ويعلمون أحكامه ولغته وهو ما سجله بغيظ وحنق الرحالة الأوربيون
الذين زاروا في بداية الاكتشافات الاستعمارية. فالرحالة البرتغالي "كادا
موستو" يذكر أن ملوك الغرب الإفريقي كان "يوجد دائما بحضرتهم بعض رجال
الدين من الشعب الذي يسمى صنهاجة أو العرب وهم الذين يظهرون وجه القانون للملك".
وفي القرن الحادي عشر
الهجري السبع عشر الميلادي يذكر الرحالة الفرنسي " لابات " أن رجال
الدين في البيضان (أي الشناقطة الذين نقلوا الديانة المحمدية إلى الزنوج، ولهذا
كان لهم نفوذ قوي على هذه الشعوب التي تنظر إليهم كأساتذة ومرشدين في كل ما يتصل
بالدين والدنيا.
إلا أن الاتجاه إلى
التعليم والدعوة السلمية لم يكن بديلا عن الجهاد المسلح خاصة حين لاحت نذر التوسع
الاستعمار الأوربي وهو ما بادر إليه الشناقطة فانطلقت في القرن الحادي عشر الهجري
حركة الإمام ناصر الدين الرائدة، فوحدت شعوب حوض نهر السنغال كلها في دولة إسلامية
مجاهدة ضد الاحتلال الاستعماري الذي أقام لنفسه قاعدة تجارية عسكرية هي مدينة
سنلوي.
ورغم
الهزيمة التي منيت بها هذه الحركة على أيدي تحالف بين الفرنسيين والملوك المخلوعين
فإن تأثيرها في غرب إفريقيا كله كان عظيما. وقد بينت الدراسات المتخصصة أن هذه
الحركة كانت الجذر الثقافي والتنظيمية الذي انطلقت منه حركات الجهاد الإسلامي
الكبرى في غرب إفريقيا ونعني بذلك الإمام سليمان بال في فوتا تورو والإمام مالك سي
في فوتا بندو والشيخ عثمان دان فوديو في بلاد الهوسا والشيخ أحمد لبو في بلاد
ماسنا والحاج عمر الفوتي في بلاد فوتا. لقد كان لقادة هذه الحركات كافة علاقات
وطيدة ببلاد شنقيط ومنهم من تلقى فيها دراسته كالإمام سليمان بال والإمام عبد
القادر كن ومنهم من ينتسب إلى سكانها كالإمام مالك سي ومنهم من تربطه بأعلامها صلة
تلمذة علمية فكرية قوية كالشيخ عثمان دان فوديو والشيح أحمد لبو وكانا تلميذين
للشيخ سيد المختار الكنتي بواسطة ألفا نوح بن طاهر.
وإلى جانب هذا الدور دور
تدشين الجهاد ودعمه، استمرت بلاد شنقيط في أداء دورها العلمي والثقافي بل يمكن
القول بأن هذا الدور قد بلغ أقصى مداه في القرون الأربعة الأخيرة فقد أنتشر دعاة
المعلمون ومشايخ الطرق الصوفية الشناقطة في غرب إفريقيا كله كما وفد على بلاد
شنقيط أبناء المنطقة من كل حدب وصوب لتلتقي المعارف الإسلامية حتى يمكن القول إن
الكثرة الغالبة من مراكز الإشعاع الثقافي الإسلامي في غرب إفريقيا مدينة بحظ من
نورها لموريتانيا قليل أو كثير. وسنشير هنا بإيجاز إلى الدور العظيم جدا الذي لعبه
الشيخ سيد المختار الكنتي (ت 1226هـ - 1811م) وابنه الشيخ سيد محمد الخليفة
(ت1242هـ 1827م) اللذان امتد نفوذهما من بورنوا واهيير إلى ضفاف المحيط والبلاد
الخاضعة لسلطة الرامل بسينغال ..... وهذه أوسع منطقة تخضع لتأثير داعية إفريقية
واحد.
وكانت الطريقة القادرية
بزعامة الشيخ الكنتي من أهم عوامل التجديد الإسلامي في غرب إفريقيا كله خلال
القرنين الماضيين. وقد تواصل دور الشيخ الكنتي على يد تلامذة له أجلاء نذكر من
بينهم على الخصوص الشيخ سيدي الكبير (ت 1274هـ 1868م) الذي كان له نفوذ علمي وروحي
كبير في غرب أفريقيا كله. وبالإضافة إلى القادرية المختارية كان للقادرية الفاضلية
(نسبة إلى الشيخ محمد فاضل بن مامين ت 1288هـ -1871م) حظ عظيم جدا من نشر الإسلام
وتوطيد أركانه على أيدي العديد من مشايخها الأعلام نخص منهم الشيخ سعد ابيه بن
الشيخ محمد فاضل (ت 1335هـ - 1917م) وأبناؤه وأحفاده. أما الطريقة التيجانية فقد
انتشرت في غرب إفريقيا بواسطة الشيخ محمد الحافظ بن المختار (ت 1247هـ-1832م) وبه
يتصل سند أكابر مشايخها كالعالم المجاهد الحاج عمر الفوتي وكالحاج مالك سي وكالحلج
عبد الله انياس. وقد كان للشيخ حماه الله أتباع كثيرون في جميع أصقاع إفريقيا
الغربية وخصوصا مالي وبركينا فاسو وساحل العاج وغيرها مما هو مشاهد معروف. ذلك عن
مشايخ الطرق أما العلماء الذين نشروا الثقافة الإسلامية من غير هؤلاء فهم لا يحصون
كثرة وإن كانوا مع الأسف أقل شهرة، نذكر منهم المختار بن بونا الجكني ومحنض باب بن
أعبيد والحارث بن محنض والشيخ محمد المامي ومحمذن فال بن متالي ومحمد يحيى الولاتي
... وإن كل هؤلاء الذين أسعفنا الحظ بأن حفظ لنا التاريخ أسمائهم ولاشك قلة نادرة
بالنسبة إلى تلك الأعداد الغفيرة من الجنود المجهولين الذين رحلوا إلى غرب إفريقيا
واستقبلوا طلبته الوافدين وتجشموا مشاق الأسفار واقتحموا مخاطر الفلوات وأنفقوا من
وقتهم وجهدهم ومالهم وعلمهم بكل سخاء وكانوا على اختلاف مستوياتهم ومذاهبهم
وحظوظهم عناصر فاعلة من نسق متكامل يبدأ بمعلم الصبيان ليصل إلى أستاذ الجامعة
المتخصص وكلاهما ومن بينهما يمكن أن يكون راعيا أو تاجرا أو رحالة غنيا او فقيرا
شابا أو عجوزا ، فإلى أولائك الجنود المجهولين من كل شعوب المنطقة ينصرف الفكر
اليوم والتقدير داعين الله تعالى أن يثبت أجورهم ويجزل ثوابهم وأن يعين الأجيال
التي تخلفهم اليوم على تحمل الأمانة ورعي الوديعة . والله الهادي إلى سواء السبيل.